لو احتجت أن أكتب عن إبراهيم فسأكون مضطراً للكتابة عنه بين كل سطرٍ وسطر (ألف) سطر ، وربما أكثر.

ليس هذا لسبب أنه كان بالنسبة لي بمثابة الأب الأصغر ، الأخ الأكبر ، المعلم الملهم ، الجار الأقدم في حارة (فرح) بمدينة ذمار ، بل لأنه بدى لي ليس مجرد رئيس دولة ، بل زعيم أمة طموح حتى الذهول ، وصاحب مشروع عربي قومي نهضوي وحضاري واسع , حتى الخوف عليه منه.

محظوظ من عرف إبراهيماً ومحظوظ أيضاً من لم يعرفه ، ولكلا الأمرين أسبابهما!

عرفت إبراهيم جيدا ، وفهمته ، ودرسته عن ظهر قلب وبالمقابل تعاملت مع خلفه الرئيس الراحل علي عبدالله صالح لسنوات طوال بوعيٍ ظلت فيها المقارنة بينهما حاضرة في ذهني بحكم قوة الإقتراب ودرجة الإهتمام بشخصية الرجلين .. لا يحتاج الأمر في هذا إلى لا جدال لأنني بكل بساطة لم أكن موظفاً مع أحدهما!

لم يكن إبراهيم ملاكاً بأي حال ، ولا شريراً بأي مجال ، بل إنسان أصاب في جوانب وأخطأ في أخرى ((لكن أفدح أخطاء إبراهيم أنه هو من قتل إبراهيم))!

يلح عليَّ الكثير من متابعي كتاباتي لأن أكتب عما عرفته عن ملابسات إغتياله.

مرجع هذا الإلحاح لدى البعض - في تقديري - هو أنني تحدثت عن أنني عرفته في صباي بحكم علاقة الجوار وصداقة والدينا وأسرتينا ، وثانيهما عن علاقة العمل الطويلة تقريباً التي ربطتني بضابطه الذي وصفه بـ (تيس الضباط) المشتبه في التورط باغتياله الرئئس علي عبدالله صالح.

لا مشكلة عندي في الحديث بموضوعيةٍ وإنصافٍ وحياد تام عن كلا الرجلين فالمسألة أصبحت مادةً تاريخية وكلا الرجلين أصبحا في ذمة الله.

نعم أعترف أنني بصعوبة بالغة حاولت الوقوف عند منتصف المسافة تماماً بين كلا القائدين رغم فارق المسافة بينهما، أن أكون أنا ، أنا الذي أحب ، وهما من هما كما أرادا ، وأنا من اخترت أن أكون ، فإخترت المسافة التي لم أجد أفضل منها بينهما.

نعم ، عرفت الحمدي جيداً قبل أن أصل إلى عشرينيات عمري بوصفه الجار الأقرب ، وخبرت صالح حتى خمسينيات حياتي بحكم أنه كان الرئيس الذي لم أجد أمامي طوال معظم سنوات حياتي المهنية رئيساً سواه.

لا أنكر أنني عانيت في حياتي الكثير والمؤلم (جداً، جداً جداً) من ازدواجية المشاعر المتناقضة تجاه الرجلين ، ولكن في النهاية كان لا بد من حقي أن أعيش وأعمل لأقيم أود أسرتي البسيطة ، وأن أمضي كشابٍ في مقتبل العمر إلى حيث أردت أن أكون!

الحقيقة التي أدركتها عن علاقة الحمدي وصالح هي أنه لا الأول كان يتوجس خيفة من الثاني ، ولا الثاني كان يحلم بأن يكون في محل الأول.

وقفت على روايات كثيرة في هذا الشأن لا يتسع المجال لسردها ، لكن كتابي عن (زمن إبراهيم) سيتناول ذلك عندما يتم رفع قيود الحياد المهنية والقانونية عنه من قبل المؤسسة التي أنا مضطر للاستمرار في العمل لديها.

قصارى القول هي أن هناك من الروايات ما لا يمكن تصديقه بالكامل ، وفي الوقت ذاته يتعذر تجاوزه بالمطلق ، والسبب هو أن إبراهيم إستمع إلى تحذيرات عديدة جادة من قبل أطراف كثيرة مختلفة عن طموحات مساعده أحمد الغشمي ، لكنه تجاهلها كلها يقيناً منه أن الغشمي (إبن قبيلة) لا يمكنه أن يغدر به ، وأنه يعرفه كأحد ضباطه المخلصين الذين خبرهم طوال سنين ، بل لم يكن يتردد في أن يخبر الغشمي بكل تلك التحذيرات بينما لم يكن الغشمي على ما تصوره إبراهيم وفق ما فهمته من ساسة كبار عرفوهما جيداً.

يحيى المتوكل كان صديق إبراهيم ، وزميل دراسته في كلية الطيران ، وصاحب الفضل في الإفراج عنه بعد ثورة سبتمبر العام 1962 ، على خلفية علاقة والده بالإمام أحمد يحيى حميد الدين ، ومن ثم شريكه في زنزانة السجن الحربي في القاهرة ، ويحيى بعد ذلك كان صديقاً لصالح وموضع تقديره وثقته .. أشار المتوكل في مقابلته الطويلة مع الصحفي (صادق ناشر) إلى أن المؤشرات التي توفرت لديه كلها تؤكد وقوف الغشمي وراء اغتيال إبراهيم ، لكنه تجنب الإشارة إلى أي دور لصالح ، والأمر مفهوم ، فالمقابلة أجريت في سياق تاريخي معروف من التفاهم السياسي بين يحيى وصالح في عهد الأخير وفي ظل حسابات الأول من ناحية أخرى.

ولكن يظل في ظني - وبعض الظن إثم - أنه بحكم ما وقفت عليه من تفاصيل عن علاقة صالح القوية بالغشمي فإنني أستبعد أن يقوم الغشمي بأي عمل كبير دون أن يكون صالح قريباً منه أو على الأقل مطلعاً عليه ، وبالتالي فقد كان صالح يمثل بالنسبة للغشمي رفيق السلاح ، المرافق له في رحلة العلاج الطويلة في أسمرا ، أي تقريباً نفس ما كان يمثله عبدالله الحمدي بالنسبة لأخيه غير الشقيق إبراهيم.

في المحصلة دون الخوض في مزيدٍ من التفاصيل فإن الشعبية الطاغية لإبراهيم في كل أنحاء البلاد جعلته يعتقد أنه لا يمكن لأحد أن يجرؤ على السطو على حياته ، ولا على التآمر أو الخيانة لمشروعه السياسي ، غير أن سلطته كانت في الواقع تتآكل بفعل خلافه مع المؤسسة القبلية وفي صدارتها الشيخان عبدالله الأحمر المقرب من السعودية وسنان أبو لحوم القريب من منافستها بغداد ، لم تقف إلى جانبه إيران الشاه رضا بهلوي ، ولا واشنطن ولندن وباريس قبلت بتخطيه للباب العالي السعودي ، وبالنتيجة حسابياً ، وبالتالي واقعياً إنحصرت سيطرته على البلاد شمالا ليس على أطراف صنعاء فقط بل على صنعاء نفسها ، بينما اتسعت جنوبا في كل البلاد المترامية الأطراف ، ولكن في النهاية كان من الواضح أن ضغوطاً محلية وخارجية مورست بشدة على الغشمي العسكري المتغول برضى إبراهيم في صنعاء بالسلطة والمال لا بالخبرة لا التعليم ، والمفتقد لأي رؤية سياسية المعتمد على صديقه المقدام صالح للانقلاب على إبراهيم.

قبل زيارته المقررة إلى عدن ، استخف إبراهيم الخارق الذكاء بكل تلك التحذيرات أي أنه في المحصلة أن إبراهيم نفسه قتل إبراهيم!

كان صالح في كل مرة يضطر فيها للتطرق إلى مأساة إبراهيم يحاول إقناع الجميع بأنه لم يكن في صنعاء يوم مقتل إبراهيم وأخيه عبدالله ، غير أن جميع الشهادات والشواهد التي حصلت عليها من قبل ساسة آباء وزملاء كبار أثق بصدقهم تؤكد أن صالح لم يكن في تعز يوم مقتل الحمدي وأخيه بل كان في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في صنعاء ، بل هو من أشرف في الإذاعة على بث بيان اغتيال ألرئيس الحمدي ، أي أنه كان في قلب المشهد تماماً ، لكن ما هو دور صالح في إغتيال الحمدي بتفاصيل أدق ،كيف لي أعرف بعد أربعة وأربعين عاماً ماذا كان دوره .. باختصار ، لا أدري ..!